الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء **
فيها خرج العسكر من القاهرة لحفظ ثغر عسقلان من الفرنج وكانوا قد نزلوا عليها في السنة الخالية. وكانت العادة أن يخرج في كل ستة أشهر عسكر بدلاً من العسكر الذي بالثغر. فلما قدم البدل كانت النوبة لركن الدين المظفر أبي منصور عباس بن تميم ربيب العادل. فخرج ومعه من الأمراء ابنه نصر بن عباس والأمير ملهم والضرغام وأسامة ابن منقذ وغيره وكان لأسامة بعباس اختصاص كبير. فلما نزلوا بعد رحيلهم من القاهرة على بلبيس تذكر عباس وأسامة مصر وطيبها وما هم خارجون إليه من مقاساة السفر ولقاء العدو فتأوه عباس أسفاً على مفارقته لذاته بمصر وأخذ يلوم العادل ويثرب عليه من أجل كونه أخرجه. فقال له أسامة: لو أردت كنت أنت سلطان مصر. فقال: وكيف لي بذلك فقال: هذا ولدك ناصر الدين بينه وبين الخليفة مودة عظيمة فخاطبه على لسانه أن تكون سلطان مصر موضع عمك فإنه يحبك ويكره عمك فإذا أجابك فاقتل عمك. فوقع هذا الكلام من عباس بموقع وقبله فاستدعى ابنه وأسر إليه بما تقرر بينه وبين أسامة وسيره سراً إلى القاهرة. وكان العادل قد كره تخصيص نصر بن عباس بالخليفة الظافر وقال لعباس وأمه والله ما ينبغي اجتماع نصر بالخليفة قولا له يقصر من اجتماعه فربما نتج من شابين ما لا ينبغي. وقال لأم عباس: لا يدخل ابنك داري إلا بإذني. فكأنه يوحي بأنه قاتله. فلما سار نصر من عند أبيه ودخل إلى القاهرة كان وقت غفلة من العادل أمكنته فيها الفرصة فاجتمع بالظافر وأعلمه بالحال التي قدم من أجلها فأعجبه ذلك وأذن فيه لما كان في نفسه من قتل ابن السلار لصبيان الخاص وغير ذلك. ففارق نصر الخليفة وقد قوى عزمه وأتى إلى دار جدته السيدة بلارة بنت القاسم زوجة العادل وأخبر العادل بأن أباه سمح له بالعود إلى القاهرة شفقةً عليه وخوفاً من وعشاء السفر فقبل ذلك ومشى عليه. فلما أصبح العادل يوم الخميس سادس المحرم مضى من أول النهار إلى مصر لتجهيز المراكب الحربية والنفقة في رجالها وعرضها فظل نهاره في تهيئة ذلك ليلحق عباساً وعاد في أثناء النهار إلى داره بالقاهرة وقد لحقته مشقة وتعب تعباً كثيرا. فلما استلقى على الفراش لينام وكانت امرأته جدة نصر قد توجهت إلى الحمام وخلا له البيت فجاء إلى باب السر ودخل منه ومعه سيف فإذا العادل قد نام وقت القائلة فاخترط سيفه وضربه وهو خائف فوقعت الضربة على رجله فثار من فراشه وأبصره فقال: إلى أين يا كليب! وخرج نصر يعدو وكان قد أعسته جماعة من أصحابه فلما صار إليهم وأعلمهم بما وقع قالوا له: قد قتلت نفسك وقتلتنا! ودخلوا وهو معهم فإذا به قد جاء أستاذ من خدامه وهو يحدثه فقتلوه وأخذوا رأسه فطلع بها نصر إلى الظافر. وماج الناس في القاهرة. وسرح الطائر للوقت بطلب عباس من بلبيس فقام من فوره وصار إلى القاهرة فدخلها بكرة يوم الجمعة سادس المحرم ثاني يوم قتلة العادل فوجد جماعة من الأتراك كان العادل اصطفاهم واختصهم قد نفروا وتوحشت قلوبهم مما وقع فأخذ يسكن أمرهم فلم يثقوا به ولا اطمأنوا إليه. وخرجوا يداً واحدة فساروا إلى دمشق. وكانت قتلة العادل في يوم الخميس وقت الظهر السادس من المحرم وله في الوزارة ثلاث سنين وستة أشهر. ولما حملت رأسه إلى الظافر أشرف من باب الذهب ونصبت الرأس ليراها الناس ثم حملت إلى خزانة الرءوس من بيت المال وجعلت فيها مع الرءوس وما تحرك لها ساكن ولا تكلم أحد. إلا أن نائحة كانت تسمى خسروان كانت قد مهرت في صناعة النياحة على الأموات وصارت تنشىء في نواحها الروائع فقالت فيه ترثيه سطرين أعجب بهما أدباء العصر من جملة قطعة: ما تقبل الغفلة يا شهيد الدّار يا شبيه ذي النّورين صاحب المختار وبطل مسير العساكر إلى عسقلان. فسر الفرنج ما جرى وكانوا محاصرين لعسقلان فقالوا لأهلها قتله ابنه وأنتم تقاتلون لمن فلما صح الخبر لهم وهنوا لانقطاع المدد عنهم حتى أخذها الفرنج وتقووا بأخذها. واستعرضوا كل جارية ومملوك بدمشق من النصارى وأطلقوا قهراً من أراد منهم الخروج من دمشق إلى وطنه شاء صاحبه أو أبى. ولما وصل عباس خلع عليه الظافر خلع الوزارة في يوم الجمعة المذكور ونعت بالأفضل ركن الإسلام فباشر وضبط الأمور وأكرم الأمراء وأحسن إلى الأجناد لينسيهم العادل. واستمر ولده نصر على مخافطة الخليفة عن كل أحد وأبوه لا يعجبه ذلك. وواصل الخليفة الظافر نصر بن عباس بن تميم بالعطاء الجزيل فأرسل إليه في يوم عشرين صينية فضة فيها عشرون ألف دينار ثم أغفله أياماً وحمل إليه كسوة من كل نوع وأغفله أياماً وبعث إليه خمسين صينية فضة فيها خمسون ألف دينار وأغفله أياما وبعث إليه ثلاثون بغل رحل وأربعين جملا بعددها وغرائرها وحبالها. وكان يتردد بينهما مرتفع بن فحل في قتل نصر لابنه عباس كما قتل زوج جدته العادل ابن السلار فبلغ ذلك أباه على لسان أساة بن منقذ فلاطفه واستماله. وزاد الأمر حتى كان الخليفة يخرج من قصره إلى دار نصر بن عباس التي هي اليوم المدرسة المعروفة بالسيوفية. فخاف عباس من جرأة ابنه وخشى أن يحمل الخليفة على قتله فيقتله كما قتل ابن السلار فعتبه سرا ونهاه عن ملازمة الخليفة وابنه فلم يفد فيه القول. وفيها وصلت مراكب من صقلية فملكوا مدينة تنيس.
وفيها مات رجار بن رجار صاحب جزيرة صقلية وقام من بعده ابنه وليالم بن رجار بن رجار فاسترد المسلمون سواحل إفريقية والمهدية. فيها استدعى الظافر ناصر الدولة نصر بن عباس وأخرج له صينية من ذهب فيها ألف حبة ما بين لؤلؤ وياقوت أحمر وأصفر وزمرد أخضر ذبابي وأمر له من بيت المال بعشرة آلاف دينار مصرية فقتله بعد هذه الهدية بستة أيام. وذلك أنه خرج الخليفة الظافر متنكراً من قصره في ليلة الخميس سلخ المحرم ومعه خادمان وسار على عودته إلى دار نصر بن عباس فقتله نصر وحفر له تحت لوح رخام ودفنه وقتل سعد الدولة أحد الخادمين اللذين خرجا معه من القصر وفر الآخر. وكان سبب قتله أن الأمراء استوحشوا من أسامة بن منقذ عندما علموا أنه هو الذي حسن لعباس قتل ابن السلار وتحدثوا بقتله وقيل للظافر عنه إنه غريب ومن دولة أخرى وإن في تركه وقوع ما لا يمكن تداركه. فلما بلغ أسامة ذلك أخذ يغري عباساً بابنه نصر ويبالغ في القصة حتى قال له يوما: كيف تصبر على ما يقول الناس في حق ولدك واتهامهم الخليفة أنه يفعل به ما يفعل بالنساء. فشق على عباس ولام ابنه فلم يصغ إلى لومه. فلما أنعم الظافر على نصر بناحية قليوب وحضر إلى أبيه ليعلمه بذلك قال أسامة وكان حاضراً ما هي بمهرك غالية. فامتعض لذلك عباس وقال لأسامة: كيف الحيلة في الخلاص مما بلينا به! فقال: هين هذا الخليفة في كل وقت يأتي إلى عند ولدك في داره خفية فمره إذا جاء أن يقتله. فاستدعى عباس ابنه وقال: يا بني قد أكثرت من ملازمة الخليفة وتحدث الناس في حقك بما أوجع باطني وقد يصل من هذا إلى أعدائنا ما لا يزول. فاحتد نصر وقال له: أيرضيك قتله فقال: أزل التهمة عنك كيف شئت. فأخذ نصر يعمل الحيلة في قتل الظافر وسأله أن يخرج إلى داره ليلاً في سر من الخدم ليتفسحا في منزله ليلة واحدة وكان منزله دار المأمون البطائحي. فخرج إليه في عدة يسيرة من الخدم فلما تحصل عنده اغتاله وقتل الخدم الذين معه بالجماعة الذين قتل بهم العادل ابن السلار ورمى بهم في جب عنده وغطى رأس الجب بقطعة رخام بيضاء فصارت من جملة رخام المجلس فخفى أمره. ثم مضى نصر إلى أبيه وعرفه قتل الظافر. وكان الظافر من أحسن الناس صورة وقتل وله من العمر إحدى وعشرون سنة وتسعة أشهر وخمسة عشر يوماً منها مدة خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان محكوما عليه من الوزراء. وفي أيامه أخذ الفرنج عسقلان واستولوا عليها وظهر الوهن والخلل في الدولة فإنه كان كثير اللهو واللعب مع جواريه مقبلاً على سماع المغنى. وهو الذي أنشأ الجامع المعروف الآن بجامع الفكاهين في خط الشوايين من القاهرة. وفيها ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر دمشق من مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين فسار أبق إلى بغداد وبها مات. وكان عند الإمام الظافر في قصر الروض ببغاء بيضاء تقرأ المعوذتين وتستدعي كثيراً من أبو القاسم عيسى بن الظافر بأمر الله أبي المنصور وإسماعيل بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد يقال في اسم أمه ست الكمال ويقال إحسان. ولد يوم الجمعة حادي عشر المحرم وقيل لتسع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة وبويع له عند قتل أبيه يوم الخميس سلخ المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة وعمره يومئذ خمس سنين وعشرون يوما وكان من خبره أنه ما قتل نصر بن عباس الخليفة الظافر في ليلة الخميس أصبح الوزير عباس متوجهاً إلى القصر في يوم الخميس على العادة فلما صار إلى مقطع الوزارة وطال جلوسه والخليفة لم يجلس استدعى زمام القصر مفلحاً وقال له: إن كان مولانا ما يشغله عنا في هذا اليوم عدنا إليه في الغد. فمضى الزمام وهو حائر لا يدري ما يعمل وأعلم أخوي الظافر يوسف وجبريل وكانا رجلين وأحدهما مكتهل فأخبرهما بالقصة ولم يكن عندهما من خروج أخيهما إلى دار نصر بن عباس خبر ولا علما إلا في تلك الساعة فلم يشكا حينئذ أنه قتل وقالا للزمام: هبك اعتذرت اليوم هل يتم لك هذا مع الزمان فقال: فما تأمراني فقالا: اصدقه وحاققه. فعاد إليه وقال: ثم سر ألقيه إليك بحضور الأمراء الأستاذين. فقال: ما ثم إلا الجهر. فقال: إن الخليفة خرج البارحة لزيارة ولد لك فلم يعد بغير العادة. فقال: تكذب يا عبد السوء وإنما أنت مبايع أخويه يوسف وجبريل اللذين حسداه على الخلافة واغتالاه فاتفقتم على هذا القول. فقال: معاذ الله. قال: فأين هما فخرجا إليه ومعهما ابن عم لهما يقال له أبو التقى صالح بن حسن بن عبد المجيد ابن محمد بن المستنصر فقال: حضرا. فقال لهما: أين الخليفة فقال الثلاثة: هو بحيث يعلم ابنك ناصر الدين قال: لا وإنما أنتما قتلتماه حسداً له. قالا: هذا بهتان منك لأن بيعة أخينا في أعناقنا وهؤلاء الأمراء الحاضرون يعلمون ذلك وإننا لفي طاعته بوصية أبينا. فكذبهما وأمر غلمانه يقتلونهم الثلاثة. وكان في القصر ألف سيف مجردة فشوهد أمر قبيح لم ير أشنع منه لما جرى فيه من البغي الذي ينكره الله تعالى وجميع الخلق. وقال لزمام القصر: أين ابن مولانا فقال: حاضر. قال: فدلني إلى مكانه. فدخل بنفسه إليه وكان عند جدته لأمه فحمله على كتفه وأخرجه للناس قبل أن يرفع القتلى وبويع بالخلافة ولقب بالفائز بنصر الله وعمره يومئذ خمس سنين وعشرون يوماً وصار يشاهد القتلى فحصل له فزع واضطراب وما زال مدة خلافته لم يطب له عيش لأنه كان يصرع كل قليل. ومن طريف ما وقع في هذا اليوم أن الوزير عباساً لما أراد الدخول إلى المجلس وجد بابه قد قفل من داخل وكان متولى فتح المجلس وغلقه أستاذ شيخ يقال له أمين الملك فاحتالوا في الباب حتى فتحوه ودخلوا فإذا أمين الملك خلف الباب وهو ميت وفي يده المفتاح. وفي أثناء ذلك حضر الخادم الذي أفلت من نصر إلى القصر وحدثهم بكيفية قتلة الظافر فكثرت النياحة عليه بالقصور. وظن عباس أن الأمر قد استقام له فجاء خلاف ما أمل. وأخذ أهل القصور في إعمال الحيلة عليه وكان الأمراء والسودان قد نافروه واستوحشوا منه لما فعله بأولاد الحافظ وأضمروا له العداوة والبغضاء. فاختلفت عليه الكلمة وهاجت الفتنة وصار العسكر أحزاباً ولبسوا السلاح. فخرج إليهم عباس في يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول فكانت بينه وبينهم محاربة انكسروا فيها منه وقتل منهم جماعة. هذا وأهل القصر في تدبير العمل عليه فبعثت عة الفائز إلى فارس المسلمين أبي الغارات طلائع بن رزيك وكان والياً على الأشمونين والبهنسا بالكتب وفي طيها شعور النساء تستصرخ به على عباس وكتب إليه أيضا الجليس بن الحباب. فامتعض عند وقوفه على الكتب ورؤية شعور النساء وجمع العربان والأجناد مقطعي البلاد. وبلغ ذلك عباسا فخرج من القاهرة بالعساكر في عاشر صفر وجعل ابنه ناصر الدين بالقاهرة وأنفذ إلى طلائع بحسين بن أبي الهيجاء زوج ابنته ليرده عما عزم عليه. فلما خلا به قال له: تقاتل عباساً وله خمسة آلاف مملوك!! قال: أقتاله بنفسي ونفسك. قال: أما الآن فنعم. ففت ذلك في عضد عباس لشهرة حسين وشجاعته. وعندما نزل عباس إلى إطفيح في بكرة يوم الثلاثاء خامس عشره لحق أعراب إطفيح بابن رزيك فوافوه على أبويط فسار بهم ونزل دهشور فاضطرب عباس ورجع إلى القاهرة وتفرق عنه الناس إلى طلائع بن رزيك وصار من أهل البلد في مناكدة. وغلقوا أبواب القاهرة ووقع القتال في الشوارع فاستظهر عليهم عباس وفتحوا الأبواب وقد تحقق عداوة الأمراء والجند له. واتفق أنه مر يوماً فرمى من طاق ببعض الشوارع بهاون ورمى مرةً بقدر مملوءة طعاماً حاراً فقال: ما بقي بعد هذا شيء. وعزم على الفرار فلم يقدر وغلقت أبواب القاهرة. واشتغل الناس بهذا الحادث وهو يدبر في الخروج من القاهرة فأشار عليه بعض خواسه بتحريق القاهرة فأبى وقال: يكفي ما جرى. فلما عدى طلائع بن رزيك إلى حمول عول عباس وولده نصر على المسير من مصر بكل ما يملكانه من مال وسلاح وما قدرا عليه من حواصل الدولة وكان له مائتا حصان وحجرة مجنوبة على أيدي الرجال ومائتا بغل رحل وأربعمائة جمل تحمل أثقاله في يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الأول بعد ما حلف الأمراء ألا يخونوه. وأحضر مقدمي فلما كان يوم الجمعة ركبوا عليه بكرة وتبعهما أسامة بن منقذ وجماعة وبلغ ذلك طلائع فسار ونزل قبالة المقس في عشية نهاره وخرج الناس إلى المقابر. وبات في عشاري وأصبح فأقام إلى يوم الأربعاء تاسع عشره فركب يريد القصر وقد خرج الأمراء إليه منهم من قاتله ومنهم من انضم إليه فلم يكن غير ساعة حتى انجلى الأمر عن فرار عباس وولده وابن منقذ فنهب الناس دورهم. ودخل طلائع إلى القاهرة وشقها بعساكره في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول وهو لابس ثيابا سوداء وأعلامه وبنوده كلها سود وشعور النساء التي أرسلت إليه من القصر على رءوس الرماح. فكان هذا من الفأل العجيب فإن الأعلام العباسية السود دخلت إلى القاهرة وأزالت الأعلام العلوية البيض بعد خمس عشرة سنة. ونزل طلائع بدار المأمون التي كان يسكنها نصر بن عباس. وأحضر الخادم الذي كان مع الظافر لما قتل فأعلمه بالحال فمضى راجلاً من القصر إلى دار نصر بن عباس واستخرج الظافر والأستاذ الذي كان معه وغسلهما وكفنهما وحمل الظافر في تابوت مغشى الأستاذون والأمراء ومشى طلائع وهو حاف قد شق ثيابه ومعه الناس بأجمعهم حتى وصل إلى القصر فصلى عليه الخليفة الفائز ودفن في تربة القصر مع آبائه. وجلس الفائز بقية النهار وخلع على طلائع بن رزيك بالموشح والعقد الجوهر وخلع على ولديه ونعت بالأجل الناصر سند الإمام زعيم الأنام مجير الإسلام خدن أمير المؤمنين. وخلع على أخيه ونعت بنعوت الصالح قبل الوزارة وخلع على حواشيه. وأجرى في الخلع مجرى الأفضل بالطيلسان المقور وأنشىء له سجل عظيم نعت فيه بالملك الصالح ولم يلقب أحد من الوزراء قبله بالملك وذلك يوم الخميس الرابع من شهر ربيع الآخر. وكتب في سجله على طرفه بخط الفائز: لوزيرنا السيد الأجل الملك الصالح ناصر الأئمة كاشف الغمة أمير الجيوش سيف الإسلام غياث الأنام كافل قضاة المسلمين هادي دعاة المؤمنين أبي الغارات طلائع بن رزيك الفائزي عضد الله بن الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلى أبداً كلمته من جلالة القدر وعظيم الأمر وفخامة الشان وعلو المكان واستيجاب التفضيل واستحقاق غايات المن الجزيل ومزية الولاء الذي بعثه على بذل النفس في نصرتنا ودعاه دون الخلائق إلى القيام بحق مشايعتنا وطاعتنا مما يبعثنا على التبرع له ببذلك كل مصون والابتداء من ذاتنا بالاقتراح له بكل شيء يسر النفوس ويقر العيون والذي يعمله هذا السجل من تقريظه وأوصافه فالذي تشتمل عليه ضمائرنا أضعاف أضعافه ولذلك شرفناه بجميع التدبير والإنالة ورفعناه إلى أعلى رتب الأصفياء بما جعلناه له من الكفالة. والله تعالى يعضد به دولتنا ويحوط به حوزتنا ويمده بمواد التوفيق والتأييد ويجعل أيامه في وزارتنا ممنوحةً غاية الاستمرار والتأبيد إن شاء الله تعالى. وكان سجلاً في غاية الطول والكبر من إنشاء الآجل الموفق أبي الحجاج يوسف ابن علي بن الخلال. ونزل الملك الصالح بالخلع والأمراء وغيرهم من أهل الدولة مشاة في ركابه إلى دار الوزارة فجلس للهناء وتقدم الشعراء فأنشدوا عدة مدائح ذكروا فيها هذه الحالة والواقعة. وكانوا عدة منهم عبد الرحيم بن علي البيساني والقاضي الأجل الرشيد أحمد بن الزبير والقاضي الجليس عبد العزيز بن الحسنين بن الحباب والقاضي السعيد جلال الملك الأشرف ضياء الدين أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن إسماعيل بن كاسيبويه وأبو محمد يحيى ابن خير الملقب ديك الكرم الشاعر وغيرهم وأما عباس فإنه سار بمن معه يريد أيلة ليسير منها إلى بلاد الشام فأرسلت أخت الظافر إلى الفرنج بعسقلان رسلاً على البريد تعلمهم الحال وتبذل لهم الأموال في الخروج إلى عباس وأباحتهم جميع ما معه وأن يعبثوا به إلى القاهرة فأجابوا إلى ذلك وخرجوا إليه. فلما أدركوه ثبت لهم ودافعهم عن نفسه فخذله أصحابه وفروا عنه مع أسامة بن منقذ إلى الشام فقاتل الفرنج حتى قتل وأسر ابنه نصر فعمل في قفص حديد وحمل إلى القاهرة فدخل به إلى القصر يوم الاثنين سابع عشري ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة وأخرج من يوم الاثنين الثامن عشر من ربيع الآخر قتيلاً مقطوع اليد اليمنى وصلب سحراً على باب زويلة فكان يومً عظيما عند الناس. واستولى الفرنج على جميع ما كان معهم. ولما سير الفرنج بنصر بن عباس إلى القاهرة أنشد عندما عاين البلد: بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر وخرج الناس عند قدومه إلى القاهرة ليروه فبالغوا في سبه ولعنه وبصقوا عليه حتى دخل القصر وعرض في القفص وقتل قتله الجواري نخساً بالمسال وصفعاً بالنعال وقطعوا لحمه واشتووه وأطعموه إياه حتى مات ثم أخرج وصلب على باب زويلة وأحرق بعد ذلك. وتتبع الصالح من كان مع نصر بن عباس في قتل الظافر فقتل قايماز وفتوح الأخرس وابن غالب صبراً بين يديه في جماعة معهم. وثبتت أموره فنعت نفسه بفارس المسلمين نصير الدين الصالح ومدحه الشعراء بذلك. وشرع الصالح في الميل على المستخدمين وأخذ أموالهم وتتبع أرباب البيوتات والنعم والأعيان فسلبهم نعمهم. وقبض على عدة من الأمراء وقتلهم في ثالث عشر ربيع الأول وعلى عدة من أرباب العمائم منهم أبو الحسن علي بن سليم بن البواب ناظر الدواوين وكان عارفاً بالحساب والمنطق والهندسة مليح الشعر والترسل جيد الكتابة. وأخذ يعمل على الأمراء المتقدمين في الدولة مثل ناصر الدين ياقوت صاحب الباب وكان قد ناب عن الحافظ مرة في مرضة مرضها مدة ثلاثة أشهر وكاد يوليه الوزارة ومثل الأوحد بن تميم والي دمياط وتنيس فإنه كان قد تحرك لما سمع قضية عباس وسار يريد القاهرة فسبقه طلائع بن رزيك بيوم فصار يحقد عليه كونه هم بأمر ربما نال به الوزارة غير أنه لم يسعه إلا إعادته إلى ولايته وأضاف إليها الدقهلية والمرتاحية وهو يسر له المكر. وكان من أمراء الدولة تاج الملوك قايماز وهو من أكابر الأمراء ويليه ابن غالب فحمل الأجناد عليهما حتى قتلا ونهبت دورهما. ثم إنه قلق من قرب الأوحد منه وأراد إبعاده عنه فنقله من ولاية دمياط وتنيس إلى ولاية سيوط وأخميم فخلت له القاهرة. وأظهر مذهب الإمامية وباع الولايات للأمراء وجعل لكل ولاية سعراً ومدةً ستة أشهر فقط فتضرر الناس من كثرة ترداد الولاة عليهم. وضيق مع ذلك على أهل القصر طمعا في صغر سنة الخليفة. وجعل له مجلساً يحضره أهل الأدب في الليل وطارحهم فيه الشعر فهرع إليه الناس ودونوا ما ينظمه من الشعر وكان ابن الزبير فيها صرف الصالح عن قضاء القضاة أبا المعالي مجلى بن جميع الفقيه الشافعي وولى القاضي المفضل أبا القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل بن عبد الكريم في أخريات شعبان. فيها بلغ التليس ستة دنانير. فيها مات القاضي المرتضى أبو عبد الله محمد بن الحسين الطرابلسي المعروف بالمحنك وكان قد ولي نظر الدواوين والخزائن وله تاريخ خلفاء مصر قطع فيه على الحافظ. ومات ركن الخلافة أبو الفضل جعفر فاتك بن مختار بن حسن بن تمام أخو الوزير المأمون بن البطائحي وصلى عليه الصالح. وفيها كتب المقتفي لأمر الله العباسي عهداً لنور الدين محمود بن زنكي صاحب دمشق بولاية مصر والساحل وبعثه إليه بمراكب زحف وأمره بالمسير إليها لما بلغه قتل الظافر وإقامة الفائز من بعده وهو صغير وقيل له قد اختلت أحوال الدولة بمصر. فيها مضى الأسطول إلى ميناء صور فملكها وأخربها وأحرقها وعاد مظفراً بعدة مراكب فيها حجاج من النصارى وغيرهم وبعدة كبيرة من الأسرى وبغنائم جزيلة. وفيها خرج على الصالح الأمير الأوحد بن تميم والي إخميم وأسيوط وجمع جمعاً موفوراً فسير إليه الصالح عدة من العسكر فكانت بينهما عدة وقائع أسفرت عن قتله الأوحد في يوم الأربعاء سابع عشر رجب. وفيها قدم الفقيه نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي اليماني الحكمي في شهر ربيع الأول برسالة قاسم بن فليتة أمير الحرمين فأحضر في قاعة الذهب من القصر يوم السلام وقد جلس الخليفة الفائز وحضر الوزير الملك الصالح طلائع بن رزيك والأمراء على العادة فأدى الرسالة وأنشد: الحمد للعيس بعد العزم والهمم حمداً يقوم بما أولت من النّعم لا أجحد الحق عندي للرّكاب يدٌ تمنّت اللّجم فيها رؤية الخطم قرّبن بعد مزار العزّ من نظري حتى رأيت إمام العصر من أمم ورحن من كعبة البطحاء والحرم وفداً إلى كعبة المعروف والنّعم فهل درى البيت أني بعد فرقته ما سرت من حرمٍ إلاّ إلى حرم حيث الخلافة مضروبٌ سرادقها بين النّقيضين من عفوٍ ومن نقم وللإمامة أنوارٌ مقدّسةٌ تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم وللمكارم أعلامٌ تعلّمنا مدح الجزيلين من بأس ومن كرم وللعلا ألسنٌ تثنى محامدها على الحميدين من فعل ومن شيم وراية الشّرف البذّاخ ترفعها يد الرّفيعين: من مجدٍ ومن همم أقسمت بالفائز المعصوم معتقداً فوز النجاة وأجر البرّ في القسم لقد حمى الدّين والدّنيا وأهلهما وزيره الصّالح الفرّاج للغم اللاّبس الفخر لم تنسج غلائله إلاّ يد الصّنعين: السّيف والقلم وجوده أوجد الأيّام ما اقترحت وجوده أعدم الشاكين للعدم قد ملّكته العوالي رقّ مملكةٍ تعير أنف الثّريا عزّة الشّمم أرى مقاماً عظيم الشأن أوهمني في يقظتي أنها من جملة الحلم يومٌ من العمر لم يخطر على أملى ولا ترقّت إليه رغبة الهمم ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح فما أرضى لكم كلمى ترى الوزارة فيه وهي باذلةٌ عند الخلافة نصحاً غير متّهم فكان الصالح يستعيد أبياتها في حال الإنشاد مراراً والأمراء والأستاذون يذهبون في الاستحسان كل مذهب. ثم أفيضت عليه خلع الخليفة المذهبة ومنح له الصالح خمسمائة دينار وأخرجت إليه السيدة الشريفة بنت الحافظ مع الأستاذين خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معه إلى منزله وأطلقت له من دار الضيافة رسوم جليلة وتهادته أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم. واستحضره الصالح للمجالسة ونظمه في سلك أهل المؤانسة وانثالت عليه صلاته وعمره ببره. وصار يحضر في الليل عنده مع الشيخ الجليل أبي المعالي ابن الحباب والشيخ الموفق ابن الخلال وأبى الفتح محمود بن قادوس والمهذب أبي محمد الحسن بن الزبير وولد الصالح مجد الإسلام رزيك وصهره الأجل المظفر الأمين سيف الدين حصن المسلمين ذي الفضائل والمناقب يمين أمير المؤمنين أبي عبد الله الحسين بن الأمير فارس الدولة أبي الهيجاء الفائزي الصالحي وأخيه فارس المسلمين بدر بن رزيك وقريبه عز الدين حسام وضرغام وعلي بن الزبرد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة. وهؤلاء أهل مجلس الليل. وأنشده يوما وهو في القبو من دار الوزارة قصيدة منها: وزوروا المقام الصّالحيّ فكلّ من ** على الأرض ينسى ذكره عند ذكره ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى ** فتجنوا على مجد المقام وفخره ولكن سلوا منه العلا تظفروا بها ** فكلّ امرئ يرجى على قدر قدره فرمى إليه الخريطة فوجد فيها خمسمائة دينار وخمسين رباعياً. ومدحه في شعبان بقصيدة فدفع إليه الخريطة فإذا فيها ثلاثة وسبعون دينارا. ثم لما عزم على الرجوع ودع الخليفة والصالح بن رزيك بقصيدة فأوسعاه إكراماً وإنعاماً ورسم أن يكون تسفيره خمسمائة دينار كما كانت وفادته وبعثت إليه السيدة مثل ذلك وخلع عليه للسفر ودفع له الصالح مائة دينار. وكتب له إلى ناصر الدولة والي قوص بمائة إردب من القمح وحملها من مال الديوان إلى مكة. وكتب له كتاب إلى محمد بن عمران صاحب عدن ببراءته من ثلاثة آلاف دينار وإسقاطها عنه. وسار في شوال إلى مكة فتسلم القمح من قوص وحمل معه إلى مكة من مال الديوان. ولما وقف صاحب عدن على الكتاب أبرأه من الثلاثة آلاف دينار وأسقطها عنه فسير إلى الصالح بقصيدة من عدن يشكره على ذلك فلما وقف عليها قال: قد فرطنا فيه حين تركناه يخرج من عندنا ولقد كان إمساكه للخدمة والصحبة أولى. فيها مات الفقيه أبو المعالي مجلى بن جميع بن نجا المخزومي القرشي الأرسوفي الشافعي صاحب كتاب الذخيرة في الفقه. فيها نزع السعر ووقع الغلاء بديار مصر فلحق الناس منه شدة. سنة اثنين وخمسين وخمسمائة فيها كان انفساخ الهدنة بين الفرنج وبين المصريين فشرع الصالح في النفقة على العساكر وعربان البلاد للغارة على بلاد الفرنج. فأخرج سريةً في سابع عشر جمادى الأولى وأتبعها بأخرى في رابع عشر جمادى الآخرة فوصلت الأولى إلى غزة ونهبت أطرافها ثم سارت إلى عسقلان فأسرت وغنمت وعادت مظفرة غانمة. ثم ندب سرية ثالثة فمضت إلى الشريعة فأبلت بلاءً حسنا وعادت ومؤيدة. وسير المراكب الحربية فانتهت إلى بيروت وأوقعت بمراكب الفرنج وأسرت منهم وغنمت. وسير عسكراً في البر إلى بلاد الشوبك فعاثوا فيها وغاروا ورجعوا بالغنائم في رجب ومعهم كثير من الأسرى. ثم سير الأسطول إلى عكا فأسروا نحواً من سبعمائة نفس بعد حروب كثيرة وعاد الأسطول في رمضان. وجهز سريةً فغارت على بلاد الفرنج وعادت بالغنائم في رمضان. ثم بدأت سرية في أول ذي القعدة وأردفها بأخرى في خامسه فوصلت غاراتهم إلى أعمال دمشق وعادوا غانمين. وفيها قدم رسول نور الدين محمود صاحب دمشق. وفيها كسرت مراكب للفرنج فيها الحجاج منهم على ثغر الإسكندرية فقبض عليهم نائب الثغر وجهزهم. وفي سلخ ذي الحجة قبض الصالح على الأمير ناصر الدولة ياقوت والي قوص وعلى أولاده واعتقلهم من أجل أنه بلغه عنه أنه كاتب أخت الظافر وقصد القيام على الصالح وأخذ الوزارة. وكان ناصر الدولة في ولاية قوص من أيام عباس ولما استدعى أهل القصر طلائع من الأشمونين لم يجسر على الحركة حتى كتب إلى ناصر الدولة يعلمه بذلك ويستدعيه ليكون له الأمر فأعاد جوابه يظهر الزهد في ذلك وأنه تركه من أيام الخليفة عن قدرة ظناً منه أن طلائع لا يصلح ولا يتم له ما يريد من مقاومة عباس فخاب رجاؤه. ولم يزل به الصالح حتى أودعه السجن ولم يزل به حتى مات فيه في رجب من الآتية. وفيها أحضر إلى القاهرة رجل كامل الأعضاء سريع الحركة طوله من رأسه إلى قدمه أربعة أشبار وله عدة أولاد فدخل على الصالح حتى رآه. في هذه السنة زلزلت الشام زلازل عظيمة أخربت حصن شيزر وأكثر حماة وبعض كفر طاب وأفامية وزلزلت في حلب وغيرها من البلاد وكانت بدمشق خفيفة لم تخرب شيئا ودامت مدة بأرض الشمال. وفيها سقطت دار بخط سوق وردان من مدينة مصر هلك بها جماعة من سكانها من جملتهم امرأة ترضع ولداً أخرجت من تحت الردم ميتة وأخرج الطفل ابنها في ثاني يوم وهو حي فسلم إلى من ترضعه وعاش حتى بلغ مبالغ الرجال. واتفق أيضا في هذه السنة أن السديد أبا النقباء صالحاً كان يخدم في عمالة الرباع السلطانية بمصر ومما يجري فيها دار ابن معشر عند فم السد الذي يفتح كل سنة عند كسر الخليج إذا كان وفاء النيل فإذا كان قرب الوفاء رسم بمرمة هذا الدار فرممت وأسكنت في موسم الخليج فيتحصل من أجرتها في يوم وليلة ما يتحصل من أجرة سنة كاملة. فرمها في هذه السنة وأسكنها على العادة وسكن في بيت تحتاني منها فامتلأت جميعها حتى لم يبق فيها ما يسع أحداً فسقطت وهلك جميع من فيها إلا هو فإنه أخرج بعد يومين من تحت الردم فيه رمق فبرأ وعاش مدة طويلة ثم طلع يوما وهو عجل إلى منزل سكناه بحارة الروم من القاهرة اندقت ساقه في درجة وحدث بها خدش يسير فمات منه. في المحرم جهز الصالح أربعة آلاف وأمر عليهم شمس الخلافة أبا الأشبال ضرغاماً للغارة على بلاد الفرنج فساروا في صفر إلى تل العجول وحاربوا الفرنج في النصف منه فانهزموا من المسلمين هزيمة قبيحة عليهم. وسير عسكراً في آخر في شعبان فواقعوا الفرنج على العريش وعادوا ظافرين بعدة غنائم ما بين خيول وأموال. وفيها قدم رسول الملك العادل محمود بن زنكي وقدمت رسل الفرنج يسألون في الصلح ورسول صاحب قسطنطينية يسأل إسعافه بمراكب نجدةً له على صاحب صقلية. وفيها خرجت من القاهرة سرية إلى بيت جبرين وعادت غانمة. وسار الأسطول في يوم الجمعة ثالث عشري ربيع الآخر فانثنى إلى تنيس في الثامن من شعبان وأقعل منه إلى بلاد الفرنج. وفي سادس عشري ربيع الآخر قدم أسطول الاسكندرية وقد امتلأت أيدي الغزاة بالغنائم. وفي ربيع الآخر سار عسكر إلى وادي موسى فنزل على حصن الدميرة وحاصره ثمانية أيام وتوجه إلى الشوبك وأغار على ما هنالك وأقام أميران على الحصار وعاد بقية العسكر. وفي التاسع من جمادى الأولى سار عسكر إلى القدس فخرب وعاد بالغنائم. وورد الخبر بوقعة كانت على طبرية كسر فيها الفرنج وانهزموا فأخذ الصالح في النفقة على طوائف العسكر وكان جملة ما أنفقه فيها مائة ألف دينار. فلما تكامل تجهيزهم سير خمس شوال في الخامس من شعبان فتوجهت لسواحل الشام وظفرت بمراكب من مراكب الفرنج وعادت بكثير من الغنائم والأسرى في الثاني والعشرين من رمضان. وخرج العسكر في البر وقد ورد الخبر بحركة متملك العريش يريد الغارة على أطراف البلاد فلما بلغه سير العسكر لم يتحرك ورجع العسكر. وجهز رسول محمود بن زنكي بجواب رسالته ومعه هدية فيها من الأسلحة وغيرها ما قيمته ثلاثون ألف دينار ومن العين ما مبلغه سبعون ألف دينار تقويةً له على جهاد الفرنج. وكتب إلى الصالح كتابا ضمنه قصيدة يحرضه فيها على قتال الفرنج فوصلت إليه في سادس عشر من شهر رمضان ولبس نور الدين خلعة الملك الصالح طلائع وانقضت السنة في تجهيز العساكر في البر والبحر ومسيرها وعودها بالغنائم الكثيرة والأسارى العديدة منهم أخو القمص صاحب قبرص فأكرمه الصالح وبعث به إلى ملك القسطنطينية. وكثرت الغنائم من الفرنج بالقاهرة حتى امتلأت الأيدي بها. وقال الصالح في هذه الغزوات عدة قصائد مطولة. وفيها مات القاضي المفضل كافي الكفاة محمود بن القاضي الموفق إسماعيل بن حميد القاضي المعروف بابن قادوس في سابع المحرم فحضر الصالح إلى داره بمصر ومشى في جنازته حتى صلى عليه ومضى إلى تربته عند مسجد الأقدام بالقرافة. وكان من أماثل المصريين وأعيان في شهر ربيع الأول في خامسه قدم رسول الفرنج بهدية لطلب الهدنة. وقدم رسول نور الدين يخبر بأنه متوجه نحو بلاد الفرنج وأشار بإخراج عسكر نحوهم فخرجت سرية إلى غزة. وعاد رسول نور الدين وهو الحاجب محمود المسترشدي وصحبته الأمير عز الدين أبو الفضل غسان بن محمد بن جلب راغب الآمري وكانا قد توجها إلى نور الدين في السنة الخالية وخرجا من دمشق في نصف صفر. فندب الصالح العساكر للغارة وأنفق في ستة آلاف وخمسمائة فارس فساروا في سادس جمادى الأولى. وتوجه الأسطول في البحر وذلك أن ملك القسطنطينية أراد غزو بلاد ابن لاون صاحب أرمينية فبعث يعلم نور الدين بذلك فكتب نور الدين يستنجد الملك الصالح على الفرنج فأنجده بذلك. وفي سلخ جمادى الآخرة عاد العسكر غانما. وفي هذه السنة خرج الأمير عز الدين أبو المهند حسام ابن الأمير الأسد جلال الدين فضة وهو ابن أخت الملك الصالح على عسكر لقتال طرخان بن سليط بن طريف والي الإسكندرية وقد جمع العربان وغيرهم وخلع طاعة الصالح. فيها توفى أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن الفضل بن منصور بن أحمد بن يونس ابن عبد الرحمن بن الليث بن المغيرة بن عبد الرحمن بن العلاء بن الحضرمي في شهر رمضان بالإسكندرية. وقد حدث فسمع منه السلفي وهو آخر من حدث عن الخيال. ومولده لست بقين من ربيع الآخر سنة ست وستين وأربعمائة. وتوفى الفقيه أبو الحسن وحشي بن عبد الغالب العادلي السعدي بمنية زفتى وأخذ عن الطرطوشي وغيره. وتوفى بمصر أبو القاسم عبد السلام بن مختار اللغوي سمع من بركات وغيره وقرأ على العقبى. وله مدائح في الصالح بن رزيك وكان متصدراً بالجامع العتيق. فيها خرج إسماعيل المعروف بروق من القاهرة في ليلة الخميس حادي عشر المحرم ولحق بأخيه طرخان والي الإسكندرية وقد جمع لحرب الصالح فخرج إليه المظفر عز الدين حسام والأمير مجد الخلافة أسد الدين ورد على عسكر ولحقهم المظفر سيف الدين حسين. وقد برز إسماعيل من الإسكندرية في جموعه وخيم على دمنهور وتلقب بالملك الهادي فطرقه العسكر فهرب واختفى بالجيزة فقبض عليه في سابع عشره. وعاد العسكر في ثالث عشريه فهرب طرخان من معتقله في رابع ربيع الآخر وظفر به في سادسه فصلب على باب زويلة. ثم ضربت رقبة إسماعيل في ثامنه وصلب إلى جانب أخيه. وكان أبو طرخان فرانا فترقى طرخان في أيام الفتن حتى ولاه الصالح الإسكندرية في سنة ثلاث وخمسين. وقال الشعراء في صلبه عدة قصائد. وفيها مات الخليفة الفائز بنصر الله ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من رجب ومولده يوم الجمعة لتسع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة فكان عمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر وستة أيام منها مدة خلافته ست سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوماً. ولم يلتذ بالخلافة ولا رأى فيها خيراً فإن أباه لما قتل وبكر عباس إلى القصر وفحص عن الخليفة الظافر وقتل أخويه وابن عمه لينفي عن نفسه وابنه التهمة دعي إلى القصر واستدعى ابن الظافر هذا وحمله على كتفه وله من العمر نحو الخمس سنين ووقف به في صحن القاعة وأمر الأمراء فدخلوا عليه. فلما مثلوا بالقاعة قال لهم: هذا ولد مولاكم وقد قتل أبوه وعماه والواجب إخلاص الطاعة لهذا الطفل. فقالوا بأجمعهم: سمعنا وأطعنا وصاحوا صيحة اضطرب منها الطفل وداخله من تلك الصيحة مع ما شاهده من رؤية عمه والخدام وهم في دمائهم ما خبل وركب في الأعياد مغرراً به وخطب عنه قاضي القضاة وهو معه على المنبر. وقطع الخليج في أيامه في الليل واعتذر عن ذلك بأن النيل عدا وقطع الجسر إلى غير ذلك من التحويزات. ثم وزر الصالح بعد عباس واستبد بجميع الأمور وليس له معه أمر ولا نهي ولا تعود كلمة. فدبرت عمة الفائز في قتل الصالح وفرقت في ذلك نحو خمسين ألف دينار. فبلغ ذلك الصالح فأمسكها وقتلها بالأستاذين والصقالبة سراً والفائز في واد آخر من الاضطراب والاختلال. ونقل كفالته إلى عمته الصغرى وطيب قلبها وراسلها.
|